فصل: تفسير الآية رقم (103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الإسرائيليات في قصة هاروت وماروت:

قال الدكتور محمد أبو شهبة:
الإسرائيليات في قصة هاروت وماروت:
روى السيوطي في الدر المنثور، في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوت} روايات كثيرة وقصصا عجيبة رويت عن ابن عمر، وابن مسعود، وعلي، وابن عباس، ومجاهد، وكعب، والربيع، والسدي، رواها ابن جرير الطبري في تفسيره، وابن مردويه، والحاكم، وابن المنذر، وابن أبي الدنيا، والبيهقي، والخطيب في تفاسيرهم وكتبهم.
وخلاصتها: أنه لما وقع الناس من بني آدم فيما وقعوا فيها من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: أي رب، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك، وطاعتك، وقد ركبوا الكفر، وقتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم، ولا يعذرونهم فقيل لهم: إنهم في غيب، فلم يعذروهم، وفي بعض الروايات أن الله قال لهم: لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم، قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا، وفي رواية أخرى: قالوا: لا. فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري، وأنهاهما عن معصيتي، فاختاروا هاروت، وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وركبت فيهما الشهوة، وأمرا أن يعبدا الله، ولا يشركا به شيئا، ونهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، فلبثا على ذلك في الأرض زمانا، يحكمان بن الناس بالحق، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وأنهما أراداها على نفسها، فأبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، وأنهما سألاها عن دينها، فأخرجت لهما صنما، فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا فصبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها، فخضعا لها بالقول، وأراداها على نفسها، فأبت إلا أن يكونا على دينها، وأن يعبدا الصنم الذي تعبده، فأبيا، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا هذا الصنم، أو تقتلا النفس، أو تشربا هذا الخمر، فقالا: هذا لا ينبغي، وأهون الثلاثة شرب الخمر، وسقتهما الخمر، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها فمر بهما إنسان، وهما في ذلك، فخشيا أن يفشي عليهما، فقتلاه، فلما أن ذهب عنهما السكر، عرفا ما قد وقعا فيه من الخطيئة، وأرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا وكشف الغطاء فيما بينهما، وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما قد وقعا فيه من الذنوب، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فلما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة، قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا، أو عذاب الآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا فجعلا ببابل فهما بها يعذبان معلقين بأرجلهما، وفي بعض الروايات، أنهما علماها الكلمة التي يصعدان بها إلى السماء، فصعدت، فمسخها الله، فهي هذا الكوكب المعروف بالزهرة.
ويذكر السيوطي أيضًا في كتابه ما رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه: عن عائشة، أنها قدمت عليها امرأة من دومة الجندل، وأنها أخبرتها أنها جيء لها بكلبين أسودين فركبت كلبا، وركبت امرأة أخرى الكلب الآخر، ولم يمض غير قليل، حتى وقفتا ببابل، فإذا هما برجلين معلقين بأرجلهما، وهما هاروت وماروت، واسترسلت المرأة التي قدمت على عائشة في ذكر قصة عجيبة غريبة.
ويذكر أيضا: أن ابن المنذر أخرج من طريق الأوزاعي، عن هارون بن رباب، قال: دخلت على عبد الملك بن مروان وعنده رجل قد ثنيت له وسادة، وهو متكئ عليها، فقالوا: هذا قد لقي هاروت، وماروت فقالوا له: حدثنا رحمك الله: فأنشأ الرجل يحدث بقصة عجيبة غريبة.
وكل هذا من خرفات بني إسرائيل، وأكاذيبهم التي لا يشهد لها عقل، ولا نقل، ولا شرع، ولم يقف بعض رواة هذا القصص الباطل عند روايته عن بعض الصحابة والتابعين ولكنهم أوغلوا باب الإثم، والتجني الفاضح، فألصقوا هذا الزور إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورفعوه إليه، فقد قال السيوطي: أخرج سعيد، وابن جرير، والخطيب في تاريخ، عن نافع، قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل:
قال: يا نافع: انظر: هل طلعت الحمراء؟ قلت: لا، مرتين أو ثلاثا، ثم قلت: قد طعلت، قال: لا مرحبا بها، ولا أهلا: قلت: سبحان الله!! نجم مسخر، ساع، مطيع!! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم، قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال: فاختاروا ملكين منكم، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت، فنزلا، فألقى الله عليهم الشبق، قلت: وما الشبق؟ قال: الشهوة، فجاءت امرأة يقال لها: الزهرة فوقعت في قلبيهما، فجعل كل واحد منهما يخفي عن صاحبه ما في نفسه، ثم قال أحدهما للآخر: هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟ قال: نعم، فطلباها لأنفسهما، فقالت: لا أمكنكما حتى تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء، وتهبطان، فأبيا، ثم سألاها أيضا، فأبتن ففعلا، فلما استطيرت طمسها الله كوكبا، وقطع أجنحتها، ثم سألا التوبة من ربهما، فخيرهما بين عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة، فأوحى الله إليهما: أن ائتيا بابل فانطلقا إلى بابل، فخسف بهما، فهما منكوسان بين السماء والأرض، معذبان إلى يوم القيامة».
ثم ذكر أيضا رواية أخرى، مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تخرج في معناها عما ذكرنا، ولا ينبغي أن يشك مسلم عاقل فضلا عن طالب حديث في أن هذا موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم مهما بلغت أسانيده من الثبوت فما بالك إذا كانت أسانيدها واهية، ساقطة، ولا تخلو من وضاع، أو ضعيف، أو مجهول؟!! ونص على وضعه أئمة الحديث!!
وقد حكم بوضع هذه القصة الإمام أبو الفرج ابن الجوزي، ونص الشهاب العراقي على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما: فهو كافر بالله العظيم، وقال الإمام القاضي عياض في الشفاء، وما ذكره أهل الأخبار، ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت: لم يرد فيه شيء لا سقيم، ولا صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو شيئًا يؤخذ بالقياس.
وكذلك: حكم بوضع المرفوع من هذه القصة: الحافظ: عماد الدين ابن كثير، وأما ما ليس مرفوعا: فبين أن منشأة روايات إسرائيلية عن كعب وغيره، ألصقها زنادقة أهل الكتاب بالإسلام، قال رحمه الله في تفسيره بعد أن تكلم على الأحاديث الواردة في هاروت وماروت، وأن روايات الرفع غريبة جدا، وأقرب ما يكون في ذلك أنه من رواية عبد الله بن عمر، عن كعب الأحبار، كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله بن ابن عمر، عن كعب، ورفع مثل هذه الإسرائيليات إلى النبي كذب واختلاق ألصقه زنادقة أهل الكتاب، زورا وبهتانا وذكر مثل ذلك في البداية والنهاية.
أقول: وهذا الذي قاله العلامة ابن كثير هو: الحق الذي لا ينبغي أن يقال غيره. وليس أدل على هذا من أن ابن جرير رواها بالسند الذي ذكره ابن كثير، وبغيره عن ابن عمر، عن كعب الأحبار، ولكن بعض الرواة غلطا، أو سوء نية، رفعها ونسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا ردها المحققون من المفسرين الذين مهروا في معرفة أصول الدين، وأبت عقولهم أن تقبل هذه الخرافات: كالإمام الرازي، وأبي حيان، وأبي السعود، والآلوسي، ثم هذه من ناحية العقل غير مسلمة، فالملائكة معصومون عن مثل هذه الكبائر، التي لا تصدر من عربيد، وقد أخبر الله عنهم بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، كما ورد في بعض الروايات التي أشرت إليها آنفا رد لكلام الله، وفي رواية أخرى: أن الله قال لهما: لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني، فقالا: لو فعلت بنا يا رب ما عصيناك!! ورد كلام الله كفر، ننزه عنه من له علم بالله وصفاته، فضلًا عن الملائكة.
ثم كيف ترفع الفاجرة إلى السماء، وتصير كوكبا مضيئا، وما النجم الذي يزعمون أنه: الزهرة وزعموا أنه كان امرأة، فمسخت إلا في مكانه، من يوم أن خلق الله السموات والأرض.
وهذه الخرافات التي لا يشهد لها نقل صحيح، ولا عقل سليم هي كذلك مخالفة لما صار عند العلماء المحدثين أمرا يقينا، ولا أدرى ماذا يكون موقفنا أمام علماء الفلك، والكونيات، إذا نحن لم نزيف هذه الخرافات، وسكتنا عنها، أو انتصرنا لها؟!!
وإذا كان بعض العلماء المحدثين مال إلى ثبوت مثل هذه الروايات التي لا نشك في كذبها، فهذا منه تشدد في التمسك بالقواعد، من غير نظر إلى ما يلزم من الحكم بثبوت ذلك من المحظورات، وأنا لا أنكر أن بعض أسانيدها صحيحة أو حسنة، إلى بعض الصحابة أو التابعين، ولكن مرجعها ومخرجها من إسرائيليات بني إسرائيل، وخرافاتهم، والراوي قد يغلط، وبخاصة في رفع الموقوف، وقد حققت هذا في مقدمات البحث، وأن كونها صحيحة في نسبتها لا ينافي كونها باطلة في ذاتها، ولو أن الانتصار لمثل هذه الأباطيل يترتب عليه فائدة ما لغضضنا الطرف عن مثل ذلك، ولما بذلنا غاية الجهد في التنبيه إلى بطلانها، ولكنها فتحت على المسلمين باب شر كبير، يجب أن يغلق.
ويرحم الله الإمام الحافظ الناقد البصير: ابن كثير فقد نبه على أصل الداء، ووصف له الدواء، وبيَّن الحق والصواب في موقف المسلم من هذه الخرافات.
ما التفسير الصحيح للآية؟
وليس من شأني في هذا الكتاب مجرد الهدم والإبطال لهذه الإسرائيليات والخرافات فحسب، ولكني إلى ذلك سأعنى بتفسير الآيات التي حرفت عن مواضعها، تفسيرا علميا صحيحا، يشهد له النقل الصحيح، والعقل السليم، والسابق واللاحق من الآيات، حتى يزداد القارئ يقينا أنها دخيلة على القرآن الكريم، وإليك التفسير الصحيح.
قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}.
وليس في الآية ما يدل ولو من بعد على هذه القصة المنكرة، وليس السبب في نزول الآية ذلك، وإنما السبب: أن الشياطين في ذلك الزمن السحيق كانوا يسترقون السمع من السماء، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها، ويُلْقُونها إلى كهنة اليهود وأحبارهم. وقد دوَّنها هؤلاء في كتب يقرءونها، ويعلمونها الناس، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا: هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم، وبه يسخر الإنس، والجن، والريح التي تجري بأمره، وهذا من افتراءات اليهود على الأنبياء، فأكذبهم الله بقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}.
ثم عطف عليه: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} فالمراد بما أنزل هو: علم السحر الذي نزلا ليعلماه الناس، حتى يحذروا منه، فالسبب في نزولهما هو: تعليم الناس أبوابا من السحر، حتى يعلم الناس الفرق بين السحر والنبوة، وأن سليمان لم يكن ساحرا، وإنما كان نبيا مرسلا من ربه، وقد احتاط الملكان عليهما السلام غاية الاحتياط، فما كانا يُعلِّمان أحدا شيئا من السحر حتى يُحذِّراه، ويقولا له: إنما نحن فتنة أي بلاء واختبار، فلا تكفر بتعلمه والعمل به، وأما من تعلمه للحذر منه، وليعلم الفرق بينه وبين النبوة والمعجزة؛ فهذا لا شيء فيه، بل هو أمر مطلوب، مرغوب فيه إذا دعت الضرورة إليه، ولكن الناس ما كانوا يأخذون بالنصيحة، بل كانوا يفرقون به بين المرء وزوجه، وذلك بإذن الله ومشيئته، وقد دلت الآية: على أن تعلم السحر لتحذير الناس من الوقوع فيه والعمل به مباح، ولا إثم فيه، وأيضا تعلمه؛ لإزالة الاشتباه بينه، وبين المعجزة، والنبوة مباح، ولا إثم فيه، وإنما الحرم والإثم في تعلمه أو تعليمه للعمل به، فهو مثل ما قيل:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقِّيهِ ** ومن لا يعرف الشر من الناس يقعْ فِيهِ

واليهود عليهم لعائن الله لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يعلمون أنه النبي الذي بشرت به التوراة حتى كانوا يستفتحون به على المشركين قبل ميلاده وبعثته، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، ونبذوا كتابهم التوراة، وكتاب الله القرآن وراء ظهورهم، وبدل أن يتبعوا الحق المبين اتبعوا السحر الذي توارثوه عن آبائهم والذي علمتهم إياه الشياطين، وكان الواجب عليهم أن ينبذوا السحر، ويحذروا الناس من شره، وذلك كما فعل الملكان: هاروت وماروت من تحذير الناس من شروره، والعمل به، وهذا هو التفسير الصحيح للآية، لا ما زعمه المبطلون الخرفون وبذلك: يحصل التناسق بين الآيات وتكون الآية متآخية متعانقة، ولا أدري ما الصلة بين ما رووه من إسرائيليات، وبين قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} الآية.
والعجب: أن الإمام ابن جرير حوَّم حول ما ذكرناه في تفسير الآية ثم لم يلبث أن ذكر ما ذكر!
والخلاصة: على القارئ أن يحذر من هذه الإسرائيليات؛ سواء وجدها في كتاب تفسير، أو حديث أو تاريخ أو مواعظ، أو أدب أو... اهـ.

.تفسير الآية رقم (103):

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين ما عليهم فيما ارتكبوه من المضار اتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال: {ولو أنهم آمنوا} أي بما دعوا إليه من هذا القرآن، ومن اعتقاد أن الفاعل في كل شيء إنما هو الله لا السحر {واتقوا} ما يقدح في الإيمان من الوقوف مع ما كان حقًا فنسخ من التوراة فصار باطلًا، ومن الإقدام على ما لم يكن حقًا أصلًا من السحر لأثيبوا خيرًا مما تركوا، لأن من ترك شيئًا عوضه الله خيرًا منه؛ هكذا الجواب ولكنه عبر عنه بما يقتضي الثبوت والدوام والشرف إلى غير ذلك مما يقصر عنه الأذهان من بلاغات القرآن فقال: {لمثوبة} صيغة مفعلة من الثواب وهو الجزاء بالخير، وفي الصيغة إشعار بعلو وثبات- قاله الحرالي، وشرفها بقوله: {من عند الله} الذي له جميع صفات الكمال، وزادها شرفًا بقوله: {خير}، مع حذف المفضل عليه.
قاله الحرالي: وسوى بين هذه المثوبة ومضمون الرسالة في كونهما من عند الله تشريفًا لهذه المثوبة وإلحاقًا لها بالنمط العلي من علمه وحكمته ومضاء كلمته. انتهى.
وهذه المثوبة عامة لما يحصل في الدنيا والأخرى من الخيرات التي منها ما يعطيه الله لصالحي عباده من التصرف بأسماء الله الحسنى على حسب ما تعطيه مفهوماتها من المنافع، ومن ذلك واردات الآثار ككون الفاتحة شفاء وآية الكرسي حرز من الشيطان ونحو ذلك من منافع القرآن والأذكار والتبرك بآثار الصالحين ونحوه.
ثم أكد الخبر بأن علمهم جهل بقوله: {لو كانوا يعلمون} وقال الحرالي: فيه إشعار برتبة من العلم أعلى وأشرف من الرتبة التي كانت تصرفهم عن أخذ السحر، لأن تلك الرتبة تزهد في علم ما هو شر وهذه ترغب في منال ما هو خير؛ وفيه بشرى لهذه الأمة بما في كيانها من قبول هذا العلم الذي هو علم الأسماء ومنافع القرآن يكون لهم عوضًا من علم السيميا الذي هو باب من السحر، وعساه أن يكون من نحو المنزل على الملكين، قال صلى الله عليه وسلم: «من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس بابًا من السحر، زاد ما زاد».
وحقيقة السيميا أمر من أمر الله أظهر آثاره في العالم الأرضي على سبيل أسماء وأرواح خبيثة من مواطن الفتن في العلويات من النيرات والكواكب والصور، وما أبداه منه في علوم وأعمال لا يثبت شيء منه مع اسمه تعالى، بل يشترط في صحته إخلاؤه عن اسم الله وذكره والقيام بحقه وصرف التحنثات والوجهة إلى ما دونه، فهو لذلك كفر موضوع فتنة من الله تعالى لمن شاء أن يفتنه به، حتى كانت فتنة اسم السيميا من هدى الاسم بمنزلة اسم اللات والعزى من هداية اسم الله العزيز، ولله كلية الخلق والأمر هدى وإضلالًا إظهارًا لكلمته الجامعة الشاملة لمتقابلات الأزواج التي منتهاها قسمة إلى دارين: دار نور رحماني من اسمه العزيز الرحيم، ودار نار انتقامي من اسمه الجبار المنتقم {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} [الروم: 14].
ولما جعل سبحانه من المضرة في السحر ونحوه كان من المثوبة لمن آمن واتقى من هذه الأمة سورة الفلق والناس والمعوذتان حرزًا وإبطالًا وتلقفًا لما يأفك سحر الساحرات عوضًا دائمًا باقيًا لهذه الأمة من عصا موسى، فهما عصا هذه الأمة التي تلقف ما يأفك سحر الساحرات عوضًا دائمًا بما فيهما من التعويذ الجامع للعوذة من شر الفلق الذي من لمحة منه كان السحر مفرقًا، فهما عوذتان من وراء ما وراء السحر ونحوه، وذلك من مثوبة الدفع مع ما أوتوا من مثوبة النفع، ويكاد أن لا يقف من جاءه هذه الآية لهذه الأمة عند غاية من منال الخيرات ووجوه الكرامات. انتهى.